
لا يحتاج الفنان الراحل زياد الرحباني الى محفّز او سبب ليذكره اللبنانيون وقسم لا بأس به من غير اللبنانيين، فهو قدّم خلال مراحل حياته اعمالاً فنية متعددة جذبت الكبار والصغار على حد سواء، حتى الجيل الذي لم يعايشه ويعرفه في قمة عطاءاته. وكم كنت اليوم في حضرة زياد الرحباني، حين سمعت المبعوث الأميركي توماس براك يتحدث عن لبنان، وهو انكب على هذه الوتيرة من الحديث عن هذا البلد في الآونة الأخيرة، متخلياً او جاهلاً للاسس السياسية والدبلوماسية في التعاطي.
استحضرني عمل الفنان الراحل "فيلم أميركي طويل"، ولا بد في هذا السياق من توجيه دعوة للسيد براك ليشاهد هذه المسرحية ان لم يكن قد شاهدها بعد، لانه سيعتبر تفسه حكماً احد ابطالها بعد تصريحاته العلنية والسرية، التي تفتقر الى المنطق والعقلانية. يستميت هذا المليونير الأميركي "المسؤول" للتسويق في دفع لبنان الى اجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وحاول اعتماد سياسة الترغيب والترهيب، واللّين والشدة، والايحاء والاغراء، لكنها لم تنجح، الى ان قرر ان يكون فجاً الى حد الوقاحة في الحديث عن لبنان وجيشه ومسؤوليه، بعد ان اهان صحافييه.
اذاً، الغاية الوحيدة لبراك هي الوصول الى خلاصة مفادها ان على لبنان التفاوض المباشر مع إسرائيل، وقد لاقاه عون في منتصف الطريق حين قال ان التفاوض امر لا مفرّ منه. هذا الكلام للرئيس اللبناني منطقي، ويعني ان التفاوض سيكون بالإرغام وليس باقتناع، ولكن هو امر لا مفرّ منه، انما يجب ان يحصل بشكل تدريجي وخطوة تلو الأخرى ليتقبله الناس، بينما يصرّ براك على احراق المراحل، وهو امر غير مقبول بتاتاً، لانه يعطي نتيجة عكسية.يستسهل براك طي صفحة عمرها عقود من الزمن، وان ينسى اللبنانيون الماضي الأليم ويفاوضوا بالاخص نتنياهو، الشخصيّة نفسها التي دانها العالم ودافع عنها الاميركيون، ووقفوا في وجه كل الحلفاء والاعداء على حد سواء لاظهار وجه غير موجود لهذا المجرم المدان من قبل محكمة العدل الدولية. لا يمكن لبراك او غيره مقارنة نتنياهو ولبنان، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأميركا، او بالرئيس الصيني شي جين بينغ واميركا، او حتى المرشد الأعلى لإيران السيد علي خامنئي بايران... فأي من هذه الدول لم تحتل اميركا ولم تقتل شعبها على أراضٍ أميركية (قد تعتبر السفارة الأميركية في ايران استثناء، انما المقصود ان أي من هذه الدول لم تأت الى اميركا لغزوها او لقتل جنودها وأهلها).
ولا يمكن لبراك او غيره مقارنة الاطماع الإسرائيلية السابقة والحالية والمستقبلية بالاراضي والثروات اللبنانية، بأطماع روسية او صينية او إيرانية... بالاراضي والثروات الأميركية، فإسرائيل تم وضعها على الحدود اللبنانية بالقوة، ولا تفوّت أي فرصة لمد يدها الى هذا البلد وسلب ما يمكنها منه بالقوة ام بالدبلوماسية، وليس لبنان الضحية الوحيدة لها بل هناك دول أخرى تعاني من وضع مماثل وفي مقدمها سوريا، فيما فلسطين باتت، للأسف، برضى العرب والغرب، لقمة سائغة للاسرائيليين.
قد يستطيع براك "فرض" التفاوض بالقوة، ولكنه قد يدري أولا يدري، ان القوة لا تجلب السلام الحقيقي، بل سلاماً مقنّعاً فقط ينتظر فيه المظلوم الفرصة المؤاتية لتحصيل حقوقه بأي طريقة ممكنة، ومن المهم ان يراجع براك (الكبير في السن) التاريخ بدل ان يعدّ أمواله ويدافع عنها امام القضاء الأميركي تحديداً، ليعلم ان اميركا (التي يدّعي انها لا تتدخل في لبنان) كانت دائماً السبب في ما وصل اليه البلد، بمشاركة لبنانيين طبعاً وهو امر لا يمكن لاحد ان ينكره، ولكن واشنطن وضعت السياسات ومهدت الطريق، وكان التنفيذ على الدول الأخرى التي تدور في فلكها، ولن يقتنع أي عاقل بكلامه حول ان الولايات المتحدة لا تتحمل اي مسؤولية في ما آلت اليه الأمور في لبنان، وانها اليوم "تغسل يدها" من هذا البلد الذي تريد له الخير، اذا لم يعقد سلاماً مع إسرائيل.
حبذا لو يستعيض براك الكلام عن لبنان، ويكتفي بمشاهدة "فيلم أميركي طويل"، واذا أراد يمكنه الاستعانة بـ"ماري" التي "بتهجّي وبتعيد"...
آخر ما تم نقله من "ابداعات" براك كانت دعوته رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الى رفع السماعة والاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، للانتهاء من هذه "المهزلة". قد يخرج المسؤول الأميركي وينفي هذه الاخبار، وقد لا ينفيها، وكي لا "نظلمه"، سنتوقف عند ما قاله شخصياً اكثر من مرة وفي اكثر من مناسبة حول ضرورة التمثل بسوريا التي بدأت تسرع الخطى في اتجاه التفاوض المباشر مع إسرائيل.